• مصر.. حاتم عمور في ضيافة السفير المغربي
  • الإعدام لـ”ولد الفشوش” قاتل الشاب بدر.. آش قالو المغاربة؟
  • بعد مرور سنوات على استقرارها في كندا.. سناء عكرود تعود للعيش في المغرب
  • “جازابلانكا”.. الفرقة البريطانية الشهيرة “UB40” تحتفل بعيد ميلادها ال45 رفقة جمهور البيضاء
  • إجراءات جديدة.. وزارة الثقافة تحصن التراث المغربي ضد السطو
عاجل
الثلاثاء 28 يناير 2020 على الساعة 23:00

تيفرت ن آيت حمزة.. قرية في دكان (صور)

تيفرت ن آيت حمزة.. قرية في دكان (صور)

سعيد غيدَّى

لا وحش يسير ولا طير يطير، كأنها مقبرة مهجورة، هذا هو الانطباع الأولي الذي يعتريك وأنت تدخل إلى مركز تيفرت نايت حمزة، قرية صغيرة عالقة في علو يصل إلى 1400 متر على مستوى البحر، كل شبابها وشاباتها هجروا إلى أكادير والداخلة، بحثا عن عمل يخرجهم من الحاجة والعدم.

تركوا أباءهم يتكورون في جلالبيبهم الصوفية ويلتفون حول موقد نار، يوقده حسن اهندي، صاحب دكان خاص ببيع مواد التغذية، يجتمع هؤلاء على قلتهم، ليشاهدوا كلما سنحت الفرصة، مباريات لكرة القدم على شاشة تلفاز بحجم صغير، تنقلها قنوات الـbeinsport، عيونهم غارقة في تأمل الفراغ، لا كلام ولا حركة، وكأنهم في خيمة عزاء، أما النساء فلا أثر لهن في الخارج، غارقات في بيوتهن المهترئة، وكلهن أمل أن يسمعن أخبارا عن بناتهن وأبنائهن، أو يعودوا من المدن المترامية على تخوم البحر الأطلسي بأقل النذوب.

رتابة الصمت

لا شيء يكسر رتابة الصمت هنا في تيفرت نايت حمزة، غير هدير شاحنات تمر من حين لآخر، عبر طريق قسمت هذه القرية إلى نصفين، أحيانا تحمل حطب أشجار البلوط الأخضر المهرب من غابات الجبال التي تمتد من الأطلس المتوسط، حتى حدود أزيلال، وأحيانا تحمل الماشية والناس وأغراضهم معا، ذهابا ورجوعا من الأسواق الأسبوعية الصغيرة، التي تنتشر في هذه الأحزمة على طول أيام الأسبوع.

أما سوق تيفرت ن آيت حمزة، فيكون مرة كل يوم اثنين، هذا ما أخبرنا به شاب اسمه سعيد ادجان، التقينا به يوم أحد، هو طالب جامعي، عمره ثلاثون سنة، بنيته قوية رغم قصر قامته، بملامح حادة وابتسامة لا تكاد تفارق محياه، يلبس جلبابا صوفيا بلون أبيض، لا يخرج يديه كثيرا من جيوبه، إلا عند التحية، أو ليشرب كأس شاي وضعه بعيدا عنه، يوحي لنا أنه شبع من شربه.

تيفرت ن آيت حمزة، اسم بالأمازيغية مركب من ثلاث كلمات، شرحه لنا سعيد، قائلا: “حسب ما كيشرحو الناس لْقدام؛ كانت المنطقة معروفة بالحجر المسطح (تيفليليت) وهادو كانوا كيصاوبو بهُم واحد النشبة (المصيدة) كانت كتسمى “مفيرتا”، أما “آيت حمزة” اسم ديال واحد السيد، حيت آيت داود ؤعلي، كانو 4 د الخوت: حمامة ؤعلي، دادود ؤعلي، عبدي ؤعلي، حمزة ؤعلي، اللي كننتاميو ليه حنا”.

الهجرة والجفاف

يهاجر سنويا من تيفرت حوالي 250 شابا وشابة، وهو الرقم الذي قدمه لنا سعيد، بالتقريب، وجهتهم مدينة أكادير ومدينة الداخلة، يشتغلون جميعهم في الضيعات الفلاحية وفي موانئ الصيد البحري، حسب ما تقدمه كل مدينة من فرص الشغل، على حدة، يقضون قرابة 10 أشهر، تبدأ من شهر شتنبر حتى شهر أبريل، ويعودون في أشهر الصيف الأولى، ليكرروا الرحلة ثانية.

ارتفع عدد المهاجرين، بعد أن تخلت الأسر هنا على موردها الأساسي وهو “الكسيبة” أو رعي الأغنام. لم تختر ساكنة المنطقة التي تصل 5000 نسمة، أن “تسمح” في مهنة توارثتها أبا عن جد، لكن الجفاف وغلاء أثمنة العلف، دفعتها إلى ذلك، فاختار الأبناء، أن يتركوا بلدتهم بـ”اللي فيها”، ويتجهوا نحو الجنوب، بحثا عن عمل لإنقاذ أسرهم المعوزة من الفقر والحاجة.

سعيد إدجان، واحد من هؤلاء الذين غادروا حجرات التمدرس باكرا، للبحث عن “طرف دالخبز” تاركا خلفه أمه المسنة والمقعدة، بعد أن ذاق اليتم من الأب، “بقيت 6 سنين ف الداخلة”. يقول لنا سعيد.

عزلة وبرودة

تحيط بتيفرت ن آيت حمزة، تينغاز، الحوانت، إفْر أزيزا، توفْ كْرتيل، موارزَّان، ألْمُو، تاسْرافْت، انرْكِي.. وغيرها من القرى التي توجد في الجبال المحيطة، وتبعد عنها بحوالي 12 كيلمترا، تسكن بها عائلات تعيش حياة الرحل، أو “لْعْزِيبْ” كما يطلق عليها أهل الجبال.

في هذا الوقت بالضبط، والذي يصادف البرد القارس، حيث تتساقط فيه الثلوج بكثافة، وتعصف فيه الأنواء، يضع الناس المرابطون في تيفرت، أياديهم على قلوبهم، متوقعين في كل لحظة أن يصلهم خبر من تخوم الجبال عن حدوث كارثة ما، أحيانا تموت الأمهات الحوامل، وأحيانا تموت الأجنة، وأحيانا تنفق الماشية، أو يموت مسنون، كما حدث لرجل ستيني قضى نحبه في عاصفة ثلجية، بعدما كان عائدا من السوق في منطقة تاغية.

إقرأ أيضا: ” بعد أيام من اختفائه.. العثور على جثة ستيني وسط الثلوج في جبال أزيلال”.

اعتصام

بعد شهر شتنبر المنصرم، حاولت ساكنة تيفرت ن آيت حمزة أن تعتصم أمام مقر ولاية بني ملال، بعد أن وصلت إليها مشيا على الأقدام، لمسافة تتجاوز 65 كيلمترا، بين الجبال الوعرة والوديان والمسالك، لتطالب بتعبيد الطريق التي توصلهم إلى أهاليهم في “لعزيب”، والذين يقدرون بحوالي 200 ساكنة، يبقون لأزيد من 3 أشهر معزولين ومحاصرين دون غذاء ولا ماء ولا شبكة اتصال، وهي الطريق التي وعد بها والي جهة بني ملال خنيفرة، الساكنة، بتعبيدها، كما صرح بذلك لـ”كيفاش”، مصطفى بوخو، 42 سنة، الذي غادر الإبتدائي من مستوى “الشهادة” في النظام القديم.

وحكى لنا مصطفى، الرجل الأربعيني الأسمر، بشارب حليق، وجلباب أحمر، كيف تدخلت قوات الأمن في هذا المعتصم نفسه، وعنفت الكثير منهم، وكان أحد الضحايا الذي أغمي عليه “مشيت نطالب باش يقادوا لينا الطريق، لقيت راسي فالمستعجلات”.

وأكد أنه لحد الآن، ما يزال يعاني مضاعفات ذلك التدخل الأمني، الذي وصفه ب”العنيف، في حق عزل، جاؤوا من الأعالي، إلى وسط المدينة، ليطالبوا بفك العزلة والحصار على أهاليهم، الذين ما يزالون يحملون النساء الحوامل، والمرضى والمعوزين على النعوش، كما تُحمل الأموات، ويذيبون الثلج ليشربوا الماء”.

وعود انتخابية

صادف وجودنا في تيفرت ن آيت حمزة هطول أمطار كثيرة، تلتها تساقطات ثلجية حولت المنطقة، في وقت وجيز، إلى رداء أبيض، ثم هبت عواصف ضبابية، غطت كل الطرق والمسالك التي تتلفها مجاري المياه المطرية المحملة بالأحجار الكبيرة، فحولت البلدة إلى “منطقة رعب” بنية تحتية مفتقدة.

ورغم أن شركة خاصة فازت بصفقة قدرها مليار ومائتا مليون، بغرض تأهيل البلدة، لكن الساكنة تشتكي من “الزبونية والمحسوبية التي تعرفها عملية تبليط وتأهيل المركز، حيث تستفيد أماكن دون أخرى، تحددها علاقة أعضاء الجماعة بالساكنة”، حسب ما كشفه كل الذين صادفناهم في دكان حسن، وهم يتفقون أن المسيرين الحاليين لجماعة تيفرت، “أساؤوا إلى البلدة، ولم يقدموا أي شيء من وعودهم الانتخابية، التي كانوا يوزعونها على نساء ورجال تيفرت، إبان حملتهم”، على حد زعمهم.

صحة وتعليم 

يوجد في تيفرت “مستوصف بدون طبيب، وبدون أجهزة الإسعافات الأولية، فيه ممرضتان فقط”، يصفهما محمد شكير بـ”العساسات”، لا حول لهما ولا قوة، “تقضيان نهارهما في الجلوس والحديث إلى بعضهما، لا تنتظران أحدا، ولا هما سيقدمان أي شيء”، بتعبير شكير، الرجل الأربعيني الذي يتحدث نادرا، ولكنه يومئ برأسه دائما، بالاتفاق؛ مع كل ما يقوله أصدقاؤه.

إعدادية بدون مدير، يدرس فيها حوالي 200 تلميذة وتلميذة، ومطعم صغير يقدم وجبة الغذاء لحوالي 70 مستفيدا، يأتون من أماكن بعيدة، يضطرون إلى قضاء النهار كاملا في المؤسسة، أما في موسم الشتاء هذا، فيعتكفون في بيوتهم، خوفا من أن تجرفهم السيول، أو تقتلهم العواصف الثلجية، وغالبا ما يضطر الآخرون إلى مغادرة مقاعد الدراسة، للرعي أو لمساعدة أسرهم، في معارك الحياة اليومية، من أجل توفير كسرة خبز، لسد الرمق.

التقى موقع “كيفاش” برئيس جمعية آباء وأمهات وأولياء تلاميذ إعدادية تيفرت ن آيت حمزة، واسمه ميمون النقيقب، ولد سنة 1965، قدم لنا تاريخ الإعدادية التي بنت الساكنة -من مالها الخاص- ثلاث حجراتها الأولى، بغرض الحصول على نواة للإعدادية، قبل أن تضع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية أربع حجرات إضافية، وقاعة للمطالعة، أما وزارة التربية والتعليم، فلم تبنِ سوى جناح للعلوم والفيزياء.

أما ملاعب الرياضة والمرافق الصحية، فلا أثر لها، ولا يوجد حارس أمن، على غرار كل المؤسسات التعليمية، وهو مطلب ميمون النقيقب الملح، إضافة إلى مقاسمته السكان، مطلب إحداث إعدادية نموذجية، كما تكشف مراسلات حصل “كيفاش” على نسخ منها، وقعها أزيد من 542 مواطن، موجهة إلى المدير الإقليمي لوزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي في أزيلال، “لكن دون أن يستجد أي شيء في الأمر”.

أما التلاميذ الذين يحصلون على شهادة النجاح من الإعدادي، ويرغبون في إتمام مستويات الثانوية، يضطرون إلى خوض رحلة البحث عن بيوت للكراء، بعيدا عن دفء أسرهم، رغم طفولتهم، في بلدة تاكْلفت، التي توجد بها ثانوية الحسن الأول التأهيلية، بسبب عدم تعميم المنحة للإستفادة من الداخلية، وهو العائق الأكبر- إضافة إلى الحاجة وقصر اليد- الذي يدفع الكثير من التلميذات، إلى التضحية برغبتهن في التمدرس، والخروج مبكرا مرغمات، قبل أن يهاجرن إلى المدن البعيدة في سن مبكرة، لإعالة أسرهن، وهن اللائي يأتين من قرى بعيدة، إلى مدن عملاقة، غير آبهات بالإستغلال الذي تفرضه عليهن الشركات التي ترغب في تشغيلهن، مقابل أجر زهيد، قد لا يسد حاجة أم عجوز إلى حليب وأرز دافئ يذيب ثلج قلبها، ويفتح قصبات قفصها الصدري ليعبر هواء الجبال النقي.