• مصر.. حاتم عمور في ضيافة السفير المغربي
  • الإعدام لـ”ولد الفشوش” قاتل الشاب بدر.. آش قالو المغاربة؟
  • بعد مرور سنوات على استقرارها في كندا.. سناء عكرود تعود للعيش في المغرب
  • “جازابلانكا”.. الفرقة البريطانية الشهيرة “UB40” تحتفل بعيد ميلادها ال45 رفقة جمهور البيضاء
  • إجراءات جديدة.. وزارة الثقافة تحصن التراث المغربي ضد السطو
عاجل
الإثنين 06 يناير 2014 على الساعة 10:33

فاطمة أزهريو

فاطمة أزهريو لمختار لغزيوي [email protected]
لمختار لغزيوي larhzioui@gmail.com
لمختار لغزيوي [email protected]

كانت تريد بضعة قطرات من الدماء فقط. كانت تريد الفصيلة اللعينة المسماة “o+” النادرة الوجود من أجل ضمان حقها في التحديق مليا في وجه الحياة سنوات أخرى.

كانت تريد دما صالحا للحياة، وكانت تريد التخلص من دمها الفاسد. كانت تريد البقاء سنوات أخرى. كانت تريد أن تكبر معنا، وأن تنهي دراستها، أن تشتغل أو تبقى عاطلة، أن تتزوج أو تبقى عازبة تنتظر مجيء فارس الأحلام.

كانت تريد أن تحيا لحظات السعادة البسيطة التي يحياها من في سنها. كانت مصرة على البقاء، وكان الموت في انتظارها في ذلك السبت البارد على سرير مهترئ في حجرة أقسى من كل الفواجع بالمستشفى الجهوي محمد الخامس في الحسيمة.

رحلت فاطمة أزهريو بعد أن وجهت نداء سمعه العالم كله عن حاجتها لبعض صفائح من دم، وقليل من حياة. قالت لنا جميعا بريفية المغاربة، بتريفيت التي نفهمها وإن لم نتكلم هاته اللغة “باغية نبقا حية”. روت الحكاية مثلما عاشتها ومثلما عاشها ويعيشها آخرون غيرها من أبناء المغرب البعيد الفقير.

رحلات من مستشفى إلى آخر، وتوصيات أطباء تطلقك لتوصيات أطباء آخرين، والألم ينخر منك الجسد العليل، وساعات مثل عد عكسي أحمق تحاول أن تسابقك في لعبة أنت لم تخترها على الإطلاق.

ليس عاديا أن تموت في السن المبكر فاطمة.

ليس عاديا أن يقف الصغار أمام كاميرات الفيديو لكي يسجلوا نداء الاستغاثة أن إمنحونا بعض الدماء، إمنحونا الحق في الحياة. ليس عاديا أن يطلق النداء منذ شهر نونبر وأن لا نستجيب له، أن نكتفي بالمتابعة عبر الأنترنيت، مثل أي متبلدي أحاسيس يعتقدون أن الفرحة لن تكتمل ولن تصبح زاهية إلا إذا ماتت فاطمة لكي نجد مانكتبه في الختام، مثلما نفعل الآن، لكي ندبج أحرف الرثاء الكاذبة عن شابة لا نعرفها ولم نحس بألمها وهي حية، وحري بنا اليوم أن نصمت وأن نترك روجها الطاهرة ترقد في سلام.

كانت تقف هناك قرب المشهد العام، بعينين بريئتين تنبضان حياة، وبتحد واضح للمرض اللعين أنها قادرة على هزمه فقط لو وجدت بعض الدماء.

ويوم السبت قالتها لنا بطريقة أخرى بعد أن استحال علينا الإنصات الحق لها: ترجلت من سريرها بعد أن أعيتها الحيل. ارتفعت إلى عنان السماء زفراتها لأخيرة، تركت المجال فارغا إلا من شريط سيبقى على الدوام في الأنترنيت دليلا على أننا نستطيع أن نكون قساة حين نريد. نستطيع التحول إلى مجرمين فعلين حين نرغب في ذلك، وحين نقرر أن نتوقف عن آدميتنا وألا نلتفت إلا للتافه من مطامحنا ورغباتنا وأشيائنا الشخصية، تلك التي لا تنهتي إلا بعد أن ننتهي، وتلك التي تعني لنا الشيء الكثير لأنها تخصنا، ولأنها تمنعنا عن التفكير في الآخرين.

فاطمة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة. جولة صغيرة في أقرب مستشفى إلى منزلك ستعطيك تصورا عن حالة الكثيرين في البلد، وبالقدر الذي نقبل فيه المرض ونعتبره ابتلاء لابد من مواجهته بكل الصبر الممكن، بالقدر الذي لا نفهم فيه كيف يمكن لمجتمع يدعي الكثير من الأخلاق الفاضلة في العلن، أن يبقى نائما وألا تهزه استغاثة قاتلة، صارخة، قوية، مرعبة، رهيبة مثل تلك الصادرة عن فاطمة في ذلك الفيديو الشهير.

للفقراء حين الرغبة في الرحيل قدرتهم الباذخة على ابتداع كل الأساليب لتحسيس الحياة بعبورهم منها. حين يولد البسطاء لا أحد يكترث، وحين يموتون لا أحد يكترث، وحين يحيون لا أحد يكترث. لذلك يصرخون بكل قواهم في كل هاته اللحظات، لذلك يمضون العمر كلهم يضربون على الطاولات المهترئة، ويرفعون العقيرة بالصياح، فقط لكي يحس الكون بوجودهم، لكي يعرف الآخرون أن أناسا يعيشون بالقرب منهم، وأنه ليس من الضروري أن تكون غنيا وشهيرا ومعروفا أو ذا سلطة وجاه لكي يهتم لحالك الجميع.

فاطمة كانت من هذا النوع، حين وصلت إلى الباب المسدود مع مرضها، سجلت بالصوت والصورة صرختها، وقالت لنا قبل الرحيل إنها ماضية، لكنها ومع الرحيل تصر على أن تترك على وجهنا الندب الجماعي الظاهر الذي سيذكرنا على الدوام أننا نسيناها، وأننا لم نقم باللازم أو على الأقل بالحد الأدنى من الجهد لكي نتدبر لها بعض قطرات من دماء.

دم الوجه العام لم نحافظ عليه، والمغاربة لم يكونوا أبدا هكذا لكي يقبلوا بهاته الطريقة المخزية أن يموت منا الصغار دون أن نمد لهم يد العون، ودون أن نقول لهم على الأقل إننا نريد إعانتهم لكننا لا نستطيع.

رحمك الله فاطمة. بموتك قتلت الكثير من الأشياء فينا.